حماد مسلم يكتب
............
التقارب بين الشعوب ليس أمرا جديدا في عالم الدبلوماسية والعلاقات الدولية، بل هو هدف ناضلت من أجله أجيال من المفكرين والسياسيين ودعاة الحوار الثقافي، وسارت على منواله المنظمات الدولية بنشر خطابات مختلفة ومنها "التنوع الثقافي". وعماد البحث عن الوفاق بين جميع شعوب الأمم، يجعلنا ننظر إلى علاقتنا بالآخر المختلف باعتباره شرطا من شروط وجودنا، لأن أي مجتمع لا يستطيع العيش دون علاقات مع المجتمعات الأخرى حتى وإن كانت تختلف عنه في العرق واللغة والمعتقد والثقافة.
لقد فكرت القوى العظمى كثيرا من خلال مراكز أبحاثها ومفكريها في كيفية استعادة مكانتها أو مواجهة التحديات الجديدة دون اللجوء إلى استخدام القوة الصلبة، وهو ما أفرز منذ بداية التسعينيات نمطا جديدا من أنماط الدبلوماسية الدولية وهو "الدبلوماسية الثقافية"
فما من إنسان في هذا الوجود يستطيع العيش منفردا، وبتعبير الشاعر الألماني غوته: "ليس هناك عقاب أقسى على المرء من العيش في الجنة بمفرده، فالمؤكد أن الوجود من دون الآخرين يبدو ضربا من المستحيل". لذلك شكلت الصراعات بين الأمم خلال الألفية الماضية صورة معاكسة للطبيعة البشرية التي وصفها ابن خلدون بـ"الطابع المدني"، فمثلما يكون الإنسان مدنيا بطبعه بمعنى أهليته للتواصل مع غيره من البشر تكون المجتمعات مدنية في احتكامها إلى ضرورة التواصل الدولي.
أي مجتمع لا يستطيع العيش دون علاقات مع المجتمعات الأخرى (شترستوك)
وإذا كانت الثقافة مثلما أشرنا هي القوة الفاعلة في هذا التواصل، فإن اعتبارها قوة ناعمة منذ عقود يسر لقوى عظمى امتلاك أدوات الجذب والإقناع بأنماط تفكيرها وعيشها أكثر مما وفرته لها القوة الصلبة التي اعتمدت على الآلة العسكرية. ذلك ما ترجمه الواقع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإبان دخول العالم في تجاذب قطبي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، حيث اكتشف السياسيون في تلك المرحلة أنهم بحاجة إلى وسيلة أكثر فاعلية من طاولات المفاوضات، وأدركوا ما للثقافة من دور في التأثير على الشعوب وقدرة على تشكيل العلاقات اكتشف السياسيون بعد الحرب العالمية الثانية أنهم بحاجة إلى وسيلة أكثر فاعلية من طاولات المفاوضات، وأدركوا ما للثقافة من دور في التأثير على الشعوب
الثقافة وزن دبلوماسي جديد
لقد فكرت القوى العظمى كثيرا من خلال مراكز أبحاثها ومفكريها في كيفية استعادة مكانتها أو مواجهة التحديات الجديدة دون اللجوء إلى استخدام القوة الصلبة، وهو ما أفرز منذ بداية التسعينيات نمطا جديدا من أنماط الدبلوماسية الدولية وهو "الدبلوماسية الثقافية"، ولم يتم الاهتداء إلى هذا النمط بفضل تراجع المواجهة العسكرية بين القوى العظمى فقط، وإنما لظهور معطيات جديدة قلبت منطق "العلاقات" و"طبيعة الصراع".
ففي عالم تشهد فيه وسائل الاتصال ثورات عقب ثورات لم يعد من السهل قبول منطق استقواء دولة على أخرى، فقد تقلصت الفوارق الفكرية والنفسية والاعتقادية بين البشر، بسبب انفتاح الشعوب على بعضها البعض، وانتقال العالم من تاريخ الإعلام التقليدي إلى "الإعلام الرقمي" فصار العالم أشبه بقرية صغيرة.
انتقال العالم من تاريخ الإعلام التقليدي إلى "الإعلام الرقمي" فصار العالم أشبه بقرية صغيرة (شترستوك)
وقد ساعد هذا الامتداد الاتصالي في التقارب بين الشعوب، والأهم من ذلك أنه أعطى قوة جديدة للثقافة. إننا حين نؤكد على دور الثقافة في العلاقات الدولية فذلك لنشير إلى أن الدول المتقدمة بالخصوص أدركت أهمية الصناعات الثقافية في مبادلاتها التجارية، مما سمح لها بتوظيفها في دبلوماسيتها الناعمة، ألم يقل ستيف جوبز إن التزاوج بين التكنولوجيا والفنون والإنسانيات هو ما جعل قلب آبل يغني؟ ذلك أنه اعتقد أن التكنولوجيا لا تتقدم ولا تنمو بواسطة علوم الحاسوب وإنما من خلال تواصل تلك العلوم بالعلوم الإنسانية والفنون.
يقول ستيف جوبز "التزاوج بين التكنولوجيا والفنون والإنسانيات هو ما جعل قلب آبل يغني" (الفرنسية)
غالبا ما تكون الثقافة مؤثرة في صناعة الصورة التي تحتفظ بها الدول عن بعضها البعض، وتساهم أيضا في تصحيح الانطباعات ونبذ الأفكار المسبقة والمغلوطة، لأن تحقيق التفاهم يتطلب التعرف على الحقيقة. ويزداد أثر الثقافة كلما تمكنت الدول من أدوات الجاذبية والإقناع، فتتحول المثل التي تنادي بها عبر دبلوماسيتها الثقافية إلى أفق خلاص لبعض الشعوب أو طموحا لبعضها الآخر.فالصراعات باتت صراعات ثقافية وترسيخ مفاهيم جديدة من خلال الدور التي تلعبة الثقافة في تغيير مفاهيم كثيرة وتمحو من ذاكرة التاريخ الصراع المبني علي القوة فقط